Education

التفكير الإسلامي للسنة الرابعة آداب

Education

في مسألة الحرية و التحررّ

الدرس الأوّل : في مسألة الحرية

كتاب التفكير الإسلامي للسنة الرابعة آدابكتاب التفكير الإسلامي للسنة الرابعة آداب اضغط على الرابط لتصفح الكتاب

التوحيد و الحرية- الحرية و المسؤولية -التوحيد و معنى الحياة 

الحريّة حقّ إنساني وهي حلم و مطلب للأفراد والجماعات وهي أساس و ركيزة كل القيم، بالحرية يصحّ الاعتقاد وبها يزدهر الفكر وتستقيم السياسة وتتحقق التنمية المستدامة

أسئلة في الحرية:

ما الحرية  في  عقيدة التوحيد ؟ كيف يعيش و يتصور المسلم الموحّد الحرية ؟ هل هي مكتسبة أم فطرية ؟هل هي شعور أم فكرة ؟ ما أقسام الحرية ؟ ما مرتكزاتها في الإسلام؟ ما أشكالها ؟ هل هي فردية أم اجتماعية أم هما معا ؟ هل من يمكن الاتفاق عليها ؟ هل للحرية ثمن ؟ هل الحرية حق أم استحقاق ؟ هل الحرية حق للجميع في الإسلام ؟ ما هو الإنسان "الحر "؟هل نحنُ حقيقة أحرار مع اعتقاد المسلم بالقدر خيره و شره ؟ إذا كنّا كذلك فما هي مساحة حريّتنا وما حدودها ؟ ماذا نعني بالقول أنَّ فلاناً من النّاس مؤمنا أو غير مؤمن  حرٌّ ؟ وما صلة الحريّة بالعبوديّة لله في عقيدة التوحيد ؟ وهل صحيح أن الإنسان يمكن أن يكون عبداً لله وحرّاً في نفس الوقت ؟ هل الحرية الإنسانية في المنظور و الفكر  الإسلامي مطلقة أم مقيّدة ؟ أليس خضوع الحريّة في النظرة الإسلامية لمقتضيات القيم الأخلاقيّة والذّوق الجماليّ والعادات والتّقاليد والأعراف والقوانين الاجتماعيّة ، صورة من صور القسر الخارجيّ للحريّة ؟ هل بالإمكان تحقّق الحريّة دون ملازمة تلك الصّور القسريّة لها ؟ ألم تقترفُ جرائم كثيرة قديما و حديثا و في حضارات مختلفة  باسم الحريّة ؟ أليست الحريّة مسؤوليّة ؟ هل حقّا استمرت معاني الحرية طيلة فترات التاريخ الإسلامي محصورة بين البعد الميتافيزيقي المتمثل في طرح الفرق الكلامية لإشكالية حرية الإرادة الإنسانية بين قول بالجبر و قول بالاختيار و بين البعد الأخلاقي القانوني الفقهي التشريعي لحالة الحر و العبد؟ هل رفع البعض لشعار الحرية بإطلاق يحدّد مشاكلنا، ويحل أزماتنا؟ أم يزيدها غموضاً وتناقضاً وتصارعاً؟ هل من الحرية ان نقنن حرية الانتحار للإنسان الذي بلغ سن الرشد فما فوق ؟ هل من الحرية ان يشرع و يباح للإنسان  حرية قطع طرف من اطرافه ؟هل من الحرية ان تعطي الشخص البالغ العاقل حرية تعاطي المخدرات و حبوب الهلوسة ؟ لسائل أن يسأل لو أننا اتفقنا أن الحياة اختبار فلماذا يختبرنا الله طالما أنه يعرف النتائج؟ إذا كانت للحرية قيود فمن يفرض تلك القيود؟ ألا يعني القول بالحرية بما هي القدرة على الفعل المطلق سقوطا في الفوضى؟ إلى أي مدى يصح القول بأن الحياة تصلح وتهنأ إلا في ظلال الحرية كما ضبطتها و حدّتها النظرة القرآنية و قعّدها عمليا الفكر الإسلامي ؟هل يتذوق طعم الحرية من كان كالقطيع، يؤمر فيطيع؟ أليس دعوة البعض إلى الحرية المطلقة مجرد وهم؟ في زمن الحرية كيف يتصور المسلم المعاصر الحرية و كيف يعيشها؟ ما علاقة الحرية بالتنمية المستدامة و بالمساواة و الإنصاف و العدالة ؟

خلاصة القول، هو أن إشكالية الحرية تعد من الإشكالات الجدلية التي لازالت حاضرة إلى اليوم، و سبب تعقد هذه الإشكالية كونها لها أبعاد مختلفة و متنوعة، كالبعد الميثافيزيقي، البعد الديني، البعد السياسي، و البعد الأخلاقي

في  مفهوم الحرية:
الحرية لغة: جاء في لسان العرب لابن منظور في شرح معاني كلمة الحرية: والحر بالضم: نقيض العبد والجمع أحرار وَحِرار ، والحُرة: نقيض الأَمَة والجمع حَرائر

عرّف جابر بن حيان الكوفي،الحرية بقوله : إرادة تقدمتها روية مع تمييزأما أبو حامد الغزالي فقد عرف الحرية بقوله: الحر من يصدر منه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار،على العلم بالمراد.

قال أبو زهرة في تعريف الحرية : بأن الحر حقا هو الشخص الذي تتجّلى فيه المعاني الإنسانية العالية، الذي يعلو بنفسه عن سفاسف الأمور، ويتجه إلى معاليها ويضبط نفسه،فلا تنطلق أهواؤه ولا يكون عبدا لشهوة معينة،بل يكون سيد نفسه، فالحر من يبتدئ بالسيادة على نفسه،ومتى ساد نفسه وانضبطت أهواؤه وأحاسيسه يكون حرا بلا ريب 

للدلالة على معنى الحرية غلب في الفكر الإسلامي استعمال مصطلح الاختيار لا مصطلح الحرية، وقد لقد استعمل المعتزلة مصطلح الحرية مقابل مصطلح الجبر الذي قال به الجهمية يدل مصطلح الجبر على معنى انتفاء الحرية الخاصة بالمجتمع والإنسان فمقولة المعتزلة في حرية الإرادة الإنسانية ترتكز على الاختيار و يعنى أن الإنسان قادر على الفعل و الترك بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل فهو حر يخلق أفعاله

جملة القول في الحرية أنها حالة الإنسان الذي لا يكون خاضعا لأي عامل من عوامل الجبر, بل يكون عاملا حسب رغبته وفقا لفطرته و جبلته و طبيعته التي خلق عليها، ومنسجما مع بيئته

يستعمل الفقهاء مصطلح  الإباحة والمباح و هو من الأحكام الخمسة إلى جانب الفرض و الحرام و المكروه و المستحب و الإباحة في المفهوم الفقهي يفهم منها عدم قسر الإنسان على الفعل والترك،أي منح الإنسان كامل حريته في دائرة واسعة من الأفعال، إذ الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد فيه نص بتحريمه و منعه و يطلق على دائرة المباح في الفقه الإسلامي بدائرة العفو

حرية الاختيار في الإسلام خلقية من كونها طبيعة و فطرة فطر الله الناس عليها سواء قلنا  من  باب العدالة الإلهية على البشر كما تؤكد عليه مقولة المعتزلة، أومن باب أن الله أعطى الإنسان قدرة على الاختيار إن شاء  أصلح أو أفسد إن شاء عمل خيرا أو شرا

قال تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
المقصود الأمانة في هذه الآية  72 من سورة الأحزاب- التكليف - وهذا التكليف للإنسان فيه الخيار وليس الإلزام، أيّ فيه حرية الاختيار، لأن باقي الحيوانات مفطورة على ما أعدها الله له، فلا تستطيع الخروج عنه خلافا للإنسان

الحرية و عقيدة التوحيد

التوحيد هو الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى منفرد في ذاته وصفاته وأفعاله وإفراده بالعبودية وحده، مع إثبات ما أثبته لنفسه تعالى من أسماء وصفات من غير تحريف أو تمثيل أو تكييف أو تعطيل

التوحيد والواحد والأحد عند الأشاعرة يشمل ثلاثة أمور:
أن الله واحد في ذاته لا قسيم له
وأن الله واحد في صفاته لا شبيه له
وأن الله واحد في أفعاله لا شريك له   

التوحيد تحرير العقل البشري من الشرك وعبادة الأوثان ومن الخضوع لغير الله  و التوحيد أيضا دعوة إلى محاربة كل أصناف الاستعباد، وهو ثورة على خضوع الإنسان للإنسان، أو خضوع الإنسان للخرافات والأساطير، أو خضوع الإنسان لملذات الدنيا وشهوات نفسه الأمارة بالسوء و هذا ما يجعل العقيدة التوحيدية  ليست مجرد طقوس شعائرية فحسب

قال عمر لواليه على مصر عمرو بن العاص و ابنه  كلمته الخالدة دفاعاً عن قبطي مسيحي ظلم . متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا   فسمّى عمر الظلم استعباداً، مع أن القبطي لم يكن عبداً ولا رقيقاً، بل كان حراً إلا أن استذلاله وظلمه استعباد معنوي له، فالعرب تسمي كل تذلل وخضوع للغير عبودية، وإن كان الخاضع لغيره حراً في نفسه

جاءت كلمة التوحيد – لا إله إلا الله - مركبة من شقين لا إله (نفي وهدم) أي لا خضوع ولا طاعة عمياء ولا تبعية مطلقة لأي صنم حجري أو بشري، ثم الشق الثاني إلا الله (إثبات وبناء) بمعنى لا طاعة مطلقة ولا تبعية مطلقة ولا عبودية إلا لله بإتباع أوامره و اجتناب نواهيه

تعني لا إله إلا الله في جوهرها ثبوت الإذعان لله تعالى، وإحياء مبدأ المراقبة، فيتحقق بذلك صدق التوجه إلى الله بتحرير القلب من الخضوع للشهوات و الأهواء  و هذا ما يجعل الموحد دائم الشعور بالرقابة الإلهية

للرؤية الكونيّة لعقيدة التوحيد أثرها على حياة الإنسان وسلوكه وتصرّفاته، فمعرفة  الإنسان للكون بأبعاده المختلفة وإدراكه المعنى الحقيقيّ للحياة وفهمه لنفسه وقواها المتعدّدة، تترك الأثر الفعّال على تصوّره وتصديقه، فعقيدة التوحيد قدّمت الإجابة الشافية و الوافية عن أسئلة وجودية حيّرت الإنسان و ما زالت إلى اليوم تحيّر البعض، من أين؟ إلى أين؟ و لماذا؟

التوحيد يملأ نفس صاحبه أمنا وطمأنينة،التوحيد يعين على تكوين الشخصية المتزنة التي تتميز برؤيتها السليمة, وبأهدافها السامية، وغايتها النبيلة، التوحيد مصدر لقوة النفس وثباتها، يمنح صاحبه ثبات وقوة نفسية كما يمنح المجتمع وحدة الكلمة قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا

عندما سادت ثقافة عصور التخلف أصبح التوحيد _وهو الركن الركين للعقيدة الإسلامية أقرب إلى مباحث لاهوتية ومسائل كلامية لا تبعث على الحركة والإيجابية لهذا يجب الرجوع إلى المعنى الأصيل للتوحيد الذي يساهم في إصلاح الآفاق والأنفس بأحكامه وآدابه

إن العقيدة الإسلامية هي عقيدة للضمير وتفسير للوجود ومنهج للحياة

كانت و ما زالت الحياة الإنسانية بحثا متواصلا و مستمرا عن معنى الحرية المتأصل و المتجذر  في كيانها و وجودها على مختلف المستويات و الأصعدة فالحرية هي حلم الإنسان و هي صرخة الشعوب عبر التاريخ

في تعريف الحرية من جديد 

 الحرية لغة هي الانطلاق، والشرف، والكرامة، والاستقامة، وفعل الخير، والعطاء الكثير، والمرونة، والخدمة النبيلة

أما الحرية  اصطلاحا فهي كما عرفها إعلان حقوق الإنسان 1789 فهي حق الفرد في أن يفعل ما لا يضر بالآخرين، أو أن يكون للفرد الحق في أن يقول ويعمل ما يشاء مما لا ينافي العدل والقانون ولا يضر بالغير

أما إذا عدنا إلى مفهوم الحرية الإنسانية من منظور قرآني فهي سنة وقانون و فطرة في أصل الخلق الإنساني. الحرية في الإسلام تكون في دائرة المباحات والمسموحات التي أذن الله بها، وهي الدائرة الأوسع في التشريع الإسلامي

لم ترد كلمة الحرية في القرآن الكريم. إنما الذي ورد هو مشتقات من كلمة الحرية، مثل كلمة (تحرير) وكلمة (الحر) ،و على الرغم من عدم ذكر لفظ الحرية في القرآن الكريم فإن المتأمل في آيات الذكر الحكيم يتبين دلالات كثيرة و معاني مختلفة لمفهوم الحرية  و هذا ما جعل علماء مقاصد الشريعة الإسلامية يقرون بأن الحرية هي مقصد من مقاصد الرسالة المحمدية الخاتمة

يختلف مفهوم الحرية  من فكر لآخر و من فلسفة لأخرى ؛ فالبعض يعتقد أنّ مفهوم الحريّة هو عدم استغلال الآخرين، وهذا المفهوم في الحقيقة هو جزء من مفهوم الحريّة في الفكر الإسلامي وليس المفهوم الكامل للحريّة من المنظور القرآني، وذهب البعض إلى أن الحرية هي مطلقة دون قيود و لا حدود و هذا ما لا يقبله الإسلام و لا الفكر المعتدل أو الفطرة السليمة لأن مثل هذا القول لا يؤدي إلا إلى الفوضى و هدم قيم المجتمع و تفكيكه

الحرية في منظور الأديان السماوية لا تعني الفوضى ولا الإباحية وإنما هي قيمة وسط بين الطغيان والفوضى و بهذه النظرة تكون الحرية هي النظام و المسؤولية و هي أيضا حقوق و واجبات فحرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين فجوهر الحرية هو تنظيم العلاقة بين الأنا و الآخر و الإنسان الحر هو الذي يرفض الظلم من الآخرين رفضه الظلم على الآخرين  

ضوابط الحرية

إن الفكر الإسلامي المعاصر في القرن الواحد و العشرين ، ‏مطالب باقتحام  فضاء الحرية، وكشف  المضمون الثري لهذا الفضاء في قيم الإسلام وأحكامه ومثله و لن  يتم ذلك إلا  بمعرفة حدود الحرية و ضوابطها

كان شعار الحرية في الإسلام لا للخرافات، لا للأساطير، لا للاستعباد، نعم لعبادة الله الواحد و هذا ما عبر عنه ربعي بن عامر مخاطبا رستم قائد جيش الفرس:نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنياوالآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام

أساء البعض فهم الحرية، حينما توهموا أن الحرية تقتضي العمل المتحرك أو التفكير من غير ضوابط ولا قيود، فصدموا المشاعر ، وهزوا معايير القيم العليا، وعاثوا في الأرض فسادًا زاعمين أنهم مصلحون مجددون

لتنظيم الحرية لا بد من فرض قيود و استثناءات على الحرية نفسها، وهذا التنظيم قد يتخذ صبغة وقائية، كأن يستأذن المواطن الدولة في استعمال الحرية، و هذا التنظيم قد يأخذ صورة علاجية أو جزائية، بفرض عقوبات وجزاءات مدنية أو جنائية على الإسراف في ممارسة الحريات الشخصية أو الفردية لما فيه من إسراف يترتب عليه إضرار بالآخرين

تعني  الحرية الكف عن الاعتداء، وعدم تجاوز حقوق الغير أو اغتصابها

لاتعني الحرية الانفلات من الضوابط الأخلاقية ، وإنما تعني امتلاك القدرة على الاختيار وفقاً ‏لقواعد عقلية أو ضوابط شرعية. فهي تتجه إلى الصلاح لا التخريب، وإلى الانسجام مع نواميس الكون والمجتمع و لا الخروج عنهما

الحرية لاتعني بأي حال من الأحوال، عدم تحمل المسؤولية، وهروب الإنسان من آثار اختياراته وقناعاته . من ضوابط الحرية تجنب أن تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام، أوإحداث اضطرابات أمنية فيه

و من ضوابط الحرية أيضا عدم التمادي في ممارسة الحرية الشخصية عند وصولها إلى حرية الآخرين، حيث تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين.لذلك وجب الابتعاد عن المساس بالديانات جمعيها، واحترامها، وعدم التعدي عليها بأي حالٍ من الأحوال بدعوى الحرية

يضع المجتمع حدودا للحرية من خلال سن قوانين أو فرض اتباع عادات و تقاليد و معتقدات بعينها و تجريم الخروج عنها كما تضع السلطة حدودا للحرية من خلال القوانين التي تسنها

لا تعني الحرية  التشهير بأعراض الآخرين، أوالمس بمعتقداتهم و مشاعرهم الدينية، أو السخرية من مقدساتهم، أو النيل من كرامتهم، أومحاولة الإساءة إلى سمعتهم، عن طريق خطابات موجهة إلى العموم، أو عبر مقالات صحفية، أو رسومات كاركتيرية، أو غيرها، بدعوى حرية التعبير، لأن الحرية محدودة في إطار ما لا يضر بالآخرين، وهذه الحدود هي عادة ما يحددها القانون

مقيِّدات الحرية

الدين: عبر التشريعات يضع الدين حدودا و ضوابط لحرية الإنسان

العرف: للعرف تقييداته لحرية الفرد

.القانون: لتحقيق التعايش السلمي و منع الظلم و الاعتداء يحد القانون من الحريات

.الضمير: أي التقييد الذاتي للحرية فالمسؤولية رقابة من الداخل

الحرية مطلب وضرورة، و لكن ليس هناك حرية مطلقة بلا حدود وبلا شروط وبلا متطلبات ولا ضوابط تضبطها، فالحدود هي التي تحمي الحرية وتحمي مفهوم الحرية من أن يكونا سببا للفوضى و المس من كرامة الأفراد و الاعتداء على كرامتهم و حقوقهم

الحرية و المسؤولية

المسؤولية هي قدره الفرد على تحمل نتائج قراراته التي اتخذها ، ويلتزم الفرد بما يصدر منه من أقوال وأفعال وأحيانًا يجب على الفرد التعويض عن خطأ صدر منه وتعد المسؤولية من أكثر الأمور الضرورية لاستمرار الحياة

إذا كانت الحرية هي: قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه باختياره وإرادته الذاتية الحرة، فإن “المسؤولية” هي: تحمل تبعات ونتائج ما يفعله الإنسان أو يتركه باختياره وإرادته الذاتية الحرة كذلك

تفقد الحرية معناها بدون المسؤولية، وتفقد المسؤولية معناها بدون الحرية. فالعلاقة بينهما إذن علاقة تلازم وتكامل؛ وكما يقال: “أنت حر ما لم تضر”.  مسؤولية الأشخاص عن كل ما يصدر عنهم هي التي تفصل بين العقلانية والتسيب، بين الممارسة المتحضرة، والسلوك البدائي المتوحش

التلازم بين الحرية والمسؤولية في حياة الانسان أشبه بحال السائق وقواعد نظام السير: فنحن أحرارا أن نركب سياراتنا ، نسير عليها حيث نشاء، لكننا مطالبين  بمراعاة قواعد نظام السير واحترامها، حفاظا على سلامتنا وسلامة غيرنا، ولو أردناهاحرية مطلقة في الطريق بغير التزام ولا انضباط، جنينا على أنفسنا وعلى غيرنا وعلى النظام العام

أحوال المجتمعات تفسد و تضطرب  و تضيع المصالح والأمن والاستقرار بعاملين رئيسيين:

أوّلها: الإفراط والغلو والشطط في طلب الحرية وممارسة حقها، بغير ضوابط عقلية ولا دينية ولا خلقية، فتصبح تهورا وتمردا تعقبه الشرور والمفاسد

ثانيها: التفريط والتقصير في أداء واجب المسؤولية، عن جهل أو تجاهل أو تمرُّد، مما يؤدي الى ضياع الحقوق والمصالح

لابد وأن تشيع ثقافة المسؤولية لتحمي الحرية وتتكفل بإعطائها بالقوة والمناعة للاستمرار والنمو والارتقاء دون أن تحرق نفسها باللامسؤولية، فالحرية تقتل ذاتها بذاتها حين تكون بلا مسؤولية

الغيب رؤية  للكون و للإنسان الحر فيه

قال تعالى في صفة المتّقين: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون ) البقرة 3 

لقد وردت كلمة الغيب في القرآن الكريم أكثر من 50 مرة وكل الآيات التي تحدثت عن الغيب جعلته مقصورا علي الله عز وجل ، فالمقصود بالغيب هو حقيقة الله عز وجل لأننا نعلم صفات الله تعالي لكننا لا نعلم ذاته ، كما أننا نعلم من الغيب بعلم الله أن هناك أنبياء ورسل وجنة ونار وحساب

الإنسان هو ذلك الكائن الثنائي الأبعاد المرتبط بعالمي الغيب و الشهادة، فهو قبضة من طين ونفخة من روح فمفهوم الغيب،حاضر في إدراكنا، خفيّ عن حواسّنا، و هو أحد أركان التصوّر الإسلامي للتوحيد أوّلاً، وسمَة في حياة المؤمن ثانياً فما صورة العلاقة بين عالمي الغيب و الشهادة التي جاء بها الوحي المحمدي  و التي إن تمثلها المسلم المعاصر يستطيع تغيير واقع و  استعادة فاعلية الحضارية ؟

إن الإيمان بالغيب من الخصائص المميزة للإنسان عن غيره من الكائنات. ذلك أن الحيوان يشترك مع الإنسان في إدراك المحسوس، أما الغيب فإن الإنسان وحده المؤهل للإيمان به بخلاف الحيوان. لذا كان الإيمان بالغيب ركيزة أساسية من ركائز الإيمان في الديانات السماوية كلها

إن تاريخ الإنسان العاقل هو تاريخ الإنسان المتدين و هذا الإنسان لا يستطيع تحديد هويته الإنسانية و الحضارية دون أن يكون للغيب وجود في صياغة هذه الهوية و لأجل هذا نزلت الكتب السماوية و ختمت بالقرآن الكريم  لتنظيم العلاقة بين عالمي الغيب و الشهادة تأهيلا للإنسان للفوز بالدنيا و الآخرة معا فما صورة النظرة القرآنية للعلاقة بين عالمي الغيب و الشهادة التي يمكن للمسلم المعاصر تبنيها لاستعادة فاعليته الحضارية و الخروج من واقعه المتردي على كل الأصعدة؟

من آثار الإيمان بالغيب  شعور المؤمن  برقابة الله تعالى عليه، وأنه مطلع على جميع حركاته وسكناته، فيبعثه ذلك على الاستقامة على أمر الله تعالى بتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي

الإيمان بالغيب هو الموجه للعقول المؤمنة نحو التقدم المعرفي والرقي الحضاري من خلال استحضار مبدأ الرقابة وواجب الاستخلاف وما يترتب عنهما من عمارة الكون وإتقان العمل

الإيمان  والأخلاق عنصران متلازمان متماسكان، لذلك حدّد الرسول صلى الله عليه وسلم الغاية من رسالته بقوله: "إنما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق". فالأخلاق مرتبطة بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم ( وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ ) رواه البخاري - والبوائق هي الشرور مهما كانت، وغالبا ما تكون أخلاقية. كما أن أدنى شعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق

المؤمن بالغيب  يندفع إلى العمل فمهمته هي عمارة الأرض.

المؤمن يوقن أن الجنة ليست جزاء للكسالى والمتقاعسين ، بل هي لأهل الجد والعمل والإتقان و صدق عز من قائل  : ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)  سورة الزخرف .72   

الإيمان بالغيب يحث الإنسان المؤمن أن يعترف بالاخر كموجود لأنه يؤمن بوجود الخالق الواحد أن الاخر إنسان يشترك مع المؤمن في الإنسانية لأن الآخر فيه قابلية الهداية، لأن الإيمان والكفر وصفان للإنسان وليسا أمرين ذاتيين فيمكن للمؤمن أن يصير كافراً و العكس صحيح

الإيمان بالغيب يعطي معنى إيجابي للحياة في هذه الدنيا من خلال استشعار وحدة البشرية و وحدة خالقها و استشعار رعاية الله عز و جل للبشرية من خلال بعثة الأنبياء و الرسل عليهم السلام الذين أبلغوا الإنسان

في عصور الانحطاط انتشر في العالم الإسلامي فكر التصوف المشوه الذي اتخذ من الغيب عقيدة تدعو إلى الكسل والتقاعس وعدم العمل، والركون إلى التوكل على الله، هذا المفهوم جعل من الإسلام  دينا يعكس على أتباعه آثاراً سلبية تمثلت في حمل المسلم على التثاقل والتواكل والكسل والتعلق بأهداب الغيب والعيش في الخيال بعيداً عن الواقع، فهو يقوم على الاعتقاد بأن كل شيء مكتوب في علم الله قبل وقوعه وحدوثه، وأن هذا التصور يجعل المسلم مسلوب الإرادة، منزوع الفعل ينتظر الغيب المحتوم عليه مجبر، فلماذا يعمل؟

لقد جعل المتصوفة و من لف لفهم من مفهوم الغيب عاملا للزهد في الدنيا و مباهجها فانحصر الإبداع الإسلامي و تراجع الفعل الحضاري للمسلمين إلى أن أصبحوا على هامش الركب الحضاري يعانون من كل ألوان التخلف و هذا نتيجة منطقية  للاعتماد على الله تعالى في تحصيل النتائج دون الأخذ بالأسباب خلافاً لمعنى التوكل الذي دعا إليه الإسلام وهو الاعتماد على الله تعالى في حصول النتائج بعد الأخذ بالأسباب في العمل