Education

التفكير الإسلامي للسنة الرابعة آداب

Education

السببية بين الغزالي و ابن رشد

أنقر هنااضغط على الرابط لطبع برنامج السنة الرابعة آداب مادة التفكير الإسلامياضغط على الرابط لطبع برنامج السنة الرابعة آداب مادة التفكير الإسلاميكتاب التفكير الإسلامي للسنة الرابعة آداب

 

السببية بين الغزالي و ابن رشد

تعني السببية العلاقة بين السبب والمسبب، ومبدأ السببية هو أحد مبادئ العقل، ويعبر الفلاسفة عن ذلك بقولهم، أن لكل ظاهرة سبباً أو علة، فما من شيء إلا كان لوجوده سبب، أي مبدأ يفسر وجوده... ومبدأ السببية يعني أن لكل ظاهرة، مهما كانت طبيعتها، اجتماعية ، سياسية ، فيزيائية، أو غير ذلك ، سبباً يحدثها ، وبهذا المعنى يقترب مفهوم السببية من فكرة القانون التي أضحت غاية العلوم الاجتماعية الإنسانية اليوم. و معنى السببية  يرادف معنى العلية أو العلة (Cause ) ، إذ آثر الفلاسفة المسلمون ومنهم أبو الوليد ابن رشد لفظ العلة بدلاً من لفظ السببية ، ومعناه هو ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجاً ومؤثراً فيه. ومن هنا يتضح أن معنى السببية أو العلِّية هو ما يدخل تحت باب العلاقة بين شيئين أحدهما يؤثر في الآخر فينتج عنه شيء آخر. وبالتالي فانه يمكن تطبيق هذه العلاقة على كل مجال من مجالات النشاط الفكري والاجتماعي والسياسي للإنسان دون استثناء.

أبو حامد العزالي  و السببية :

أبو حامد الغزالي :  ولد سنة 450 هجري الموافق 1058 ميلادي و توفي سنة 505 هجري الموافق 1111 ميلادي، مكان الولادة و الوفاة : طايران أحد قسمي طوس بإيران ،  أبو حامد الغزالي فيقه شافعي ،عقيدته عقيدة أهل السنة، أشعري . كان أكثر انتقاد الغزالي وهجومه على الفلاسفة فيما يتعلق بالإلهيات، إذ كان فيها أكثر أغاليطهم بحسب الغزالي، وقد كفَّرالغزالي فلاسفة الإسلام المتأثرين بالفلسفة اليونانية و وصفهم  في كتابه (المنقذ من الضلال) بالخداع والتلبيس و كتب في ذلك كتابه الشهير الذي  سماه تهافت الفلاسفة و قداعتبر البعض هذا الكتاب ضربة لما وصف باستكبار الفلاسفة وادعائهم التوصل إلى الحقيقة في المسائل الغيبية بعقولهم ، لقد أعلن الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة فشل الفلسفة في إيجاد جواب لطبيعة الخالق وصرَّح بأن الفلسفةيجب أن تبقى مواضيع اهتماماتها في المسائل القابلة للقياس والملاحظة مثل الطب والرياضيات والفلك واعتبر أبو حامد الغزالي محاولة الفلاسفة إلى إدراك شيء غير قابل للإدراك بحواس الإنسان منافيا لمفهوم الفلسفة من الأساس. لقد  خلص الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة إلى فكرة أنه من المستحيل تطبيق قوانين الجزء المرئي من الإنسان لفهم طبيعة الجزء المعنوي وعليه فإن الوسيلة المثلى لفهم الجانب الروحي يجب أن يتم بوسائل غير فيزيائية.كان أبو حامد  الغزالي أوَّل الفلاسفة المسلمين الذين أقاموا صلحا بين المنطق والعلوم الإسلامية حين بيَّن أن أساسيات المنطق اليوناني يمكن أن تكون محايدة ومفصولة عن التصورات الميتافيزيقية اليونانية. كما توسع الغزالي في شرح المنطق واستخدمه في علم أصول الفقه ، لكنه بالمقابل شنَّ هجوما عنيفا في كتابه تهافت الفلاسفة على الرؤى الفلسفية للفلاسفة المسلمين الذين تبنوا الفلسفة اليونانية.

نقد أبو حامد الغزالي لقول الفلاسفة في السببية :

يتمحور الكلام على السببية في الفلسفة حسب الغزالي في الأقسام التالية :
1- ضرورة الاقتران بين الأسباب والمسببات .
2- نظام الكون.
3- المعجزات.
و سنبين الآن بإيجاز هذه النقاط الثلاث التي تبناها الفلاسفة و سيعارضها الغزالي

1- ضرورة الاقتران بين الأسباب : قال الفلاسفة بضرورة الاقتران في الوجود بين الأسباب والمسببات وهذا الاقتران  حسب الفلاسفة هو اقتران ملازم بالضرورة فلا يمكن أن يوجد السبب دون المسبب ولا وجود للمسبب دون السبب فمثلا القطن لا يحترق إلا إذا لاقى النار والنار لا تحرق إلا إذا لاقت القطن يتبن لنا من خلال هذا المثال أن هناك ترابط ضروري بين السبب و المسبب.و برز هذا  الترابط الضروري بين النار والقطن بفعل الإحراق،فالنار محرقة بطبعها وثمة فرق بين الفعل بالاختيار والفعل بالضرورة وفعل إحراق النار ضروري لأن طبعها كذلك.
2- نظام الكون: الكون له نظام محكم و سنن و قوانين دقيقة مطردة و كل هذا  ضمن الإطار الكلي للقدرة الإلهية.فالله سبحانه و تعالى خلق الكون وجعل له نظاماً وهذا النظام هو بمثابة السنن والقوانين الكونية وبدونه يصبح الكون عرضة للتغيرات العشوائية.فإن لم نقل بالنظام المحكم المتمثل في السنن و القوانين الكونية التي تحكم الخلق و المخلوقات يصبح من المُمكن  القول أننا تركنا كلبا في المنزل و عند عودتنا بعد فترة من الغياب وجدنا الكلب قد انقلب طفلاً أو العكس. أو أن الثعبان  انقلب ذهباً والذهب ماردا وهكذا،وكل ذلك تحت اسم القدرة الإلهية.
3- المعجزات:ينكر الفلاسفة المعجزات لأنها خرق لقوانين الطبيعة ونظام الكون المحكم، ولكنهم ميزوا في الأفعال الخارقة للأنبياء الذين حصل على أيديهم هذا الأمر إلى قسمين :
- تفسير المعجزة (تأويلاً):  كأن نقول النبي فلان  (أحيا الموتى) والمقصود من ذلك عبر التأويل أن الجاهل عندما بثّ النبي فيه العلم يكون قد أخرجه من الموت (الجهل) إلى الحياة (العلم).
- تفسير المعجزة (تعليلاً) : وذلك عبر رد المعجزة إلى قوى طبيعية .
فالنبي قد يتميّز في الأمور التالية:
- أ- المتخيلةن مخيلة الأنبياء قوية جداً ذات طبيعة عالية تكون قد اطلعت إلى اللوح المحفوظ (العقل الفعال)واستمدت منه المعارف.وهذا الأمر يحصل لهم في اليقظة والمنام بينما هو غير متيسّر لسائر البشر إلا عبر المنام وبنسب بسيطة وجزئية.
- ب - العقل النظري:حيث يقوى الحدس والإلهام والإشراق لدى النبي فيصبح لديه قدرة هائلة للانتقال من الجزئيات إلى الكليات والانتقال من المطالب إلى المعارف .
- ج - العقل العملي:حيث تحصل له قدرة على فعل أمور بقوى طبيعية عالية بحيث يفعل أمور لا يمكن لأحد الإتيان بمثلها.    
                       

يقول الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة في مسألة الاقتران بين الأسباب و المسببات  (إن الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببا، وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن نفي الآخر فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب والشبع والأكل والاحتراق ولقاء النار والنور وطلوع الشمس وهلمّ جرّا كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف وأن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت... بل للتقدير وفي المقدور: خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرّقبة وهلم جرا إلى جميع المقترنات.) يوضح الدكتور عبد المحسن سلطان مفسرا رأي الغزالي بقوله :( والغزالي يقصد أن كل حدث يحدث في الكون هو من فعل الله المباشر لذلك فإنه من الممكن أن تحدث أشياء مخالفة لقانون الأسباب والمسببات، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع الخواص في الأشياء، التي تظهر في صورة أسباب ومسببات لذا فإن إرادته وقدرته سبحانه تستطيع أن تنزع هذه الخواص وقت ما شاء)فحسب الغزالي  القول بأن أ هو السبب في إيجاد ب هو قول بقدرته على الخلق، وفي ذلك إشراك! فالجواب إذاً القول بالاطراد، لقد كان  منطلق الغزالي ( النص ) مستخدماً العقل  و هذا ما دفعه إلى القول :أن ( أ عند ب لا أن أ سبب لوجود ب ) و شاهد على ذلك من خلال ( الإعجاز ) فإبراهيم عليه السلام ألقي في النار لكنها لم تحرقه، فلو كانت النار محرقة بالضرورة لأحرقته! فإذاً الله سبحانه وتعالى يخلق فعل الإحراق إن شاء ويحبسه إن شاء. إن سبب انتقاد الغزالي للفلاسفة يعود إلى سببين جوهريين برأيه يجب الدفاع والذود عنهما بكل قوة للمحافظة عليهما:
1- اثبات قدرة الله وعظمته :لأن القول بالسببية ينقص من القدرة الإلهية .
2- الدفاع عن إجماع المسلمين على معجزات الأنبياء: لأن الفلاسفة بسبب قولهم يضرب إجماع المسلمين على معجزات الأنبياء عليهم الصلاة و السلام.      

من كل ما سبق نتبين أن الغزالي يرفض وجود علَّة فاعلة للأسباب في الأشياء والموجودات الطبيعية ويحولها إلى مجرد اقتران في الحدوث فيما بينها ، فالأسباب ظواهر تقارن المسببات وليس بعلَّة لها ، أي أن الغزالي ينكر هنا وجود علل محدَّدة تنتج عنها الظواهر الطبيعية ، أي أنه يحوِّل العلاقة السببية بين الأشياء إلى مجرد ( عادة ) اعتدنا عليها. لقد خلط الغزالي  في اعتقاده بالعادة إذ هو لم يحدِّد إذا كان يقصد بالعادة عادة الفاعل الخالق أو عادة الموجودات أو عادتنا في الحكم على الموجودات فإذا كان المقصود عادة الفاعل الخالق فهذا محال ذلك لأن العادة صفة نفسية تخص الإنسان وكل ذي نفس ولا تنطبق على الخالق سبحانه و تعالى . لقد رفض الغزالي الأسباب الطبيعية وقال بوجود فاعل واحد مطلق لا فاعل سواه و هو الله سبحانه و تعالى فالغزالي متأثر في السببية بمناهج الأشاعرة و خاصة الباقلاني والجويني. إن الأشاعرة  يعترفون بوجود أحداث متزامنة في العالم الطبيعي إلا أنهم أنكروا وجود أية علاقة سببية بينها، وإنما يقولون  بوجودها بحكم العادة فقط. وكذلك لم ينكر الأشاعرة إمكانية استنباط وجود العلَّة من المعلول، وهي فكرة تنسجم تمام الانسجام مع قولهم و اعتقادهم  بإن الموجودات جميعها باستثناء الخالق عز وجل حادثة في الزمان، وأنه من البديهي بالتالي أن يكون لكل حادث محدث. وهذا دليلهم على وجود الله سبحانه وتعالى. ومما ترتب عن ذلك قولهم باستحالة اقتران العلة الحقيقية بالمعلول وتزامنهما، من جهة، وباستحالة استنباط وجود المعلول من وجود العلة. إن الأخذ بنظرية السببية الطبيعية في نظر الأشاعرة  يؤدي إلى الاعتقاد بأن العالم قديم أبدي وأزلي، و ذلك كنتيجة منطقية للقول بتلازم العلَّة والمعلول. لقد كان سبب  رفض  الأشاعرة نظرية قدم العالم أنها  تؤدي في تصورهم  إلى تفي الحياة والإرادة والعلم والقدرة عن الذات الإلهية التي هي علَّة كل شيء والتي تملك وحدها القدرة على الخلق من عدم.                                                                 

لقد حوَّل الغزالي بقوله بالاقتران  كل الظواهر في مختلف المجالات ومستويات الواقع المادية والاجتماعية إلى مجرد اقتران،أي انه ينكر علاقة السببية والضرورة وطبيعة الأشياء ومبدأ الهوية، كما انه ينكر بشدَّة وجود الأشياء الموضوعي والعلاقات الناشئة عنها وفيما بينها أيٌّا كانت هذه العلاقات،ويرجع هذه العلاقة السببية إلى قوة أخرى خارج العالم ألا وهو الله سبحانه وتعالى. لقد حوّل الغزالي مقولة السببية من علَّة فاعلة للأسباب في الموجودات إلى مجرَّد عادة الاقتران في تتالي الحدوث، فالأسباب هي ظواهر تقارن للمسببات وليس علَّتها.‏بتحويل الغزالي كل الظواهر في مختلف مجالات و مستويات الواقع المادية غير العضوية والعضوية والاجتماعية إلى مجرد عادة الاقتران أو التتالي،فهو ينكر علاقة السببية والضرورة وطبيعة الأشياء ومبدأ الهوية، كما ينكر أيضاً وجود الأشياء الموضوعي بشكل مستقل عن الذهن ويضع بدل السببية الاقتران العائد إلى تقدير الله - سبحانه و تعالى- لخلقها على التسابق أو على هذا الشكل أو ذاك لا لكونه ضرورياً في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جزّ الرقبة وإدامة الحياة مع جزّ الرقبة وهو ينفي حتى المشاهدة، لكون المشاهدة تدل على الحصول عنده ولا تدل على الحصول به. لقد ذهب معارضي أبي حامد الغزالي بأن تصوره هذا من شأنه أن يفقد الفلسفة والعلم كل دعامة أو قيمة يقينية عملية ويفضي إلى إنكار وجود القوانين الموضوعية والقول بالفوضى وعدم النظام والثبات، حيث لا يبقى أمام الإنسان في النهاية سوى الاستسلام العاجز لمشيئة الله تعالى والتي صوَّرها الغزالي أشبه ما تكون بالعبث منها بأي شيء آخر يدل على الحكمة. بينما من صفات الفاعل الخالق سبحانه و تعالى  كما يقول ابن رشد الثبات والحكمة لا العبث والتلاعب.‏ إن خلاصة المذهب الذي وضعه الأشاعرة للسَّببيّة و الذي دافع عنه أبو حامد الغزالي الشافعي المذهب السني الأشعري المعتقد أن السببية  سواء في الأفعال والطّباع وتماشيا مع نظرية العادة، والتي تعني أن جميع ما يشاهد من الأفعال والطباع، لا يوجد ضرورة ولا وجوبا، وإنما وجوده يجري مجرى العادة، بمعنى وجود تكراره على طريقة واحدة، تمظهر لنا بمظهر السَّببيّة والتأثير. تقوم نظرية الأشاعرة – و الغزالي منهم - في الأفعال على أن القدرة الحادثة تأتي مقارنة للمقدور غير مؤثرة في وجوده، وأن القدرة الإلهيـة هي العلَّة الفاعلة التي وقع التأثير بها، وأن جميع ما تولّد من الأفعال هو من فعله سبحانه تعالى ابتداء فحركة الخاتم ـ مثلا ـ فإنها من فعله سبحانه وتعالى، من غير أن يكون لحركة الأصبع دخل في التأثير.و بتعريف مصطلح الكسب عند الأشاعرة يمكننا مزيد فهم مثال حركة الخاتم  فالكسب عندهم هو اقتران قدرة الإنسان و هي قدرة حادثة بالفعل الذي يروم القيام به دون أن يكون لقدرته أثر في إيجاد الفعل فصرف العبد قدرته و إرادته نحو الفعل كسب و إيجاد الله الفعل عَقيب ذلك خلق .

نقد الغزالي للفلاسفة في مسألة السببية:
 تمحور نقد الغزالي للفلاسفة في مسألة السببية في ثلاث مسائل يمكن تلخيصها كالآتي :  
1- الترابط الضروري بين الأسباب والمسببات.
2- نظام الكون.
3- المعجزات.
1- الترابط الضروري بين الأسباب والمسببات:
ينتقد الغزالي قول الفلاسفة في شأن الترابط الضروري بين الأسباب والمسببات بشدة ,ونلخّص أفكاره النقدية في ما يلي:
أ- يمكن حصول الشبع دون الأكل والري دون الشرب والإحراق دون النار.والسبب في ذلك أن الأكل والماء والنار هي قوى مادية لا يمكن لها بنفسها أن تقوم بالفعل المطلوب منها ولأنها قوى مادية هي بحاجة الى قوى أخرى تجعل من النار فعل الإحراق وفي الأكل فعل الشبع.والقوى الأخرى غير المادية هنا هو الله.
ب- قول الفلاسفة بالضرورة في ترابط السبب بالمسبب والمسبب في السبب كائن بالمشاهدة وتكرارها ,فعدا أن المشاهدة التي هي من أفعال الحواس هو أمر مشكوك في صدقيته فإن فعل الإحراق ناشىء عن ملاقاة النار بالقطن .
ومثال ذلك أن الأكمه إذ قدّر له وفتح عينيه وشاهد النور ظنّ أن سبب وجود النور هو عينيه وليس نور الشمس.
ج- اذا كانت النار حارقة بطبعها فلماذا قامت بفعل الإحراق لأشياء دون أشياء فلماذا لم يحترق ابراهيم؟؟

2- نظام الكون:ان القول بالضرورة في نظام الكون هو ناشىء كما بيّن في الكلام عن العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات وإن القول بالعادة وليس بالضرورة لا تنتج العشوائية والخلل في نظام الكون    

3-  المعجزات:لا ينكر الغزالي قول الفلاسفة بأن النبي له قوة طبيعية فائقة ونحن نؤيدهم في ذلك ,ونقول أن المعجزة هو أمر خارق للعادة والدليل ما بيّناه في الكلام السابق.فالله يعطي النبي تلك القدرة لخرق العادة وليس للأمر الضروري الذي قال به الفلاسفة و إلا كان بضرب نواميسه التي جعلها علاقات ضرورية للحياة فيناقض ذلك فعله.

رد أبو الوليد ابن رشد على أبي حامد الغزالي في السببية :

أبو الوليد ابن رشد ولد 520هجرية 1126م و توفي 595هجرية الموافق 1198 ( تهافت التهافت) كتاب من تأليف الفيلسوف المسلم ابن رشد للرد على أبي حامد الغزالي و كتابه تهافت الفلاسفة ،لم يعش أبو الوليد ابن رشد ، في زمن أبي حامد الغزالي ، ولم يتجادل معه و كل ما في الأمر أنَّه في كتابه الأشهر تهافت التهافت رد مباشرة على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة ، وعلى الأرجح رأى ابن رشد أن الغزالي شن هجوما عنيفا على الفلسفة فكان مما  لابد منه أن يرد علية في كتاب يحل نفس المعنى و سماه تهافت التهافت و يقصد بذلك سقوط تهافت الغزالي. استخدم ابن رشد عبارة الحكمة بدل الفلسفة من أجل تقريب الفلسفة إلىالمسلمين وتصويرها كأصيلة لا كدخيلة مستوردة. ذهب أبو الوليد ابن رشد أن المعرفة تستحيل بدون مبدأ السببية لكونها معرفة الأسباب وقوانين الموجودات والظواهر، وكذلك يستحيل التقدم العلمي القائم على البحث المتواصل عن الأسباب كما أن الفكر التصوري الفلسفي والعلمي ينطلقان من مبدأ البحث عن الأسباب، كل ضمن سياق نهجه ومثاله الخاص.يقول أبو الوليد  ابن رشد ( فالمبدأ ليس سوى السبب، والسبب هو المبدأ )  و بهذا يرد ابن رشد على كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي  الذي قال بإنكار العلاقة السببية  الضرورية في الطبيعة و نؤكد هنا على كلمة الضرورية.لقد نقد ابن رشد الصوفية نقدا عنيفا ثم نقد الأشاعرة نقدا عنيفا أيضا، لقد  انتصر ابن رشد للفلاسفة بقوة منتقداً نقد الغزالي للسببية بعنف راداً الاعتبار إليها و إلى الفلاسفة.نستطيع ان بيان موقف ابن رشد من الأشاعرة ببيان موقفه من أبي حامد الغزالي لأن الرجل كان يمثل الاتجاه الأِشعري و الصوفي معا  لذلك رفض ابن رشد الفكر التشبيهي بين الإنسان والخالق ويرى أن ليس من عادة الخالق سبحانه و تعالى  أن يخلق شيئاً ثم يغيره ويستشهد في ذلك ببعض الآيات القرآنية المعروفة. وهذا يعني أن ما خلقه الله غير قابل للتبديل وأنه لا يخضع لمجرد العادة النفسية فالأشياء التي خلقها الله منذ القدم هي أشياء وموجودات ذات صفات ثابتة، أما القول بوجود العادة في الموجودات فهذا من قبيل الاستمالة، لكونها ليست بذي نفس فالعادة لا تكون إلا لذي نفس، فما يسمى عادة بالنسبة للموجودات ليس في الواقع سوى الطبائع الواقعية التي تحدد هوية هذه الموجودات، طبق العادة التي يكونها البشر عند الحكم على الموجودات فهذه بدورها ليست أكثر من فعل العقل نفسه الذي يقتضيه طبعه فالعقل مفطور على إدراك الأسباب التي بدونها لا يكون العقل عقلاً.‏  ويتعرض ابن رشد بعد ذلك إلى أصل المشكلة عندما يؤكد العلاقة السببية من أنها ليست علاقة منطقية صورية مثلما اعتقد الغزالي ، لأن العلاقة هذه هي علاقة بين أشياء طبيعية ملموسة محسوسة . فالعلَّة لا تكون مجردة ولا كذلك المعلول . أما إذا اعترضت بعض الظروف مهما كانت هذه الظروف طبيعية أو اجتماعية سبيل العلَّة فمنعتها من أن تنتج معلولها الخاص بها ، ففي ذلك ينبغي علينا أن نأخذ هذه الظروف بعين الاعتبار.

إن الأسباب الذاتية في فلسفة ابن رشد لا يفهم الموجود إلا بفهمهما واعتبرها مساوية لهوية الشيء، فلو لم يكن لموجود فعل يخصه لم يكن له طبيعة تخصه ولا اسم يخصه ولا حد يحده. وأكد ابن رشد أن السبب الغائي هو سبب الأسباب، أو المبدأ الأول الذي هو الله سبحانه و تعالى ، والذي بفضل عنايته عز و جل تنتظم الحركة اليومية للظواهر وتتواصل باستمرار. وهذه التفاتة ذكيه من ابن رشد ، بأن جعلمجال العلَّة بعلاقتها بالمعلول علاقة تأخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات. وقد سبق أن أشرتا إلى المثال الذي ضربه ابن رشد النار التي تحرق القش اليابس وهو قول لاشك فيه من الناحية المبدئية، ولكننا إذا أضفنا إلى القش الماء لما فعلت النار فعلها وهذا لا يعني أن النار ليس لها صفة الإحراق بل العكس يبقى للنار صفة الإحراق. فالعلاقة السببية عند ابن رشد بين الأشياء علاقة ضرورية لا مجرد اقتران أو عادة كما يقول الغزالي.ويربط ابن رشد بين إنكار السببية وبين إنكار أو جحود الصانع الحكيم ،ألا وهو الله  سبحانه و تعالى، يقول ابن رشد : ( فكما ان من الممكن وجود المسببات مرتبه على الأسباب فيالأمور الصناعية أو لم يدركها فهمه فليس عنده علم بالصناعة ولا الصانع كذلك من جحد وجود ترتيب المسببات على الأسباب في هذا العالم فقد جحد الصانع الحكيم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ) يبدأ ابن رشد ردّه على الغزالي في مسألة السببية بقوله إن إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات فقول سفسطائي أو أنه يبرهن على تناقض المنطق الداخلي للفكر الذي ينفي وجود الأسباب في طبائع الأشياء، فالغزالي نفسه لا يستطيع أن ينكر من الناحية المبدئية أن كل فعل لابد له من فاعل. لكن الغزالي يرجع هذه الأسباب إلى مبدأ خارجي مفارق وإما غير مفارق، وليس من طبيعة الأشياء أو الموجودات نفسها، وهذا ضرب من التناقض والتجهيل وإنكار لذوات وصفات وأسماء وحدود الأسماء، بحيث تصبح الأشياء كلها شيئاً واحداً ولا شيئاً واحداً، فالأسباب الذاتية لا يفهم الموجود إلا بفهمها، وأي موجود لا يكون له فعل يخصّه لا تكون له طبيعة تخصّه.

ولبّ المشكلة أن علاقة السببية عند الغزالي علاقة منطقية مجردة قائمة على عدم الاقتران التتابعي الزمني، وهي ليست علاقة ضرورية واقعية ناشئة عن طبائع الأشياء المادية، فالعلَّة لا تكون مجردة وكذلك المعلول عند ابن رشد أما إذا اعترضت بعض الظروف الطارئة، سبيل العلَّة فمنعتها أن تنتج نفس المعلول فينبغي أن تؤخذ هذه الظروف بعين الاعتبار، لكن ذلك لا يعني أن تسلب النار صفة الإحراق في حال بروز ظروف معيقة لعمل العلّة أي النار، أو انتفاء القول بأن نفس العلّة تعطينا دائماً نفس المعلول. ويرى ابن رشد بأنه مهما اختلفنا في تسمية المعلول سواء أسميناه مادة أو شرطاً أو صورة أو صفة نفسية فإننا لا نستطيع إنكار علاقته الضرورية بالعلّة، والعقل عنده ليس أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها.‏ فنحن نستدل على حكمة الله وتدبيره من النظر فيالخواص اللازمة لها التي تدل على علم الصانع وحكمته سبحانه و تعالى ، فإذا أنكرنا تسلسل الأسباب الضروري رفعنا هذه الخواص اللازمة التي تلحق بالموجود من جراء الطبيعة الخاصة به أو العوامل المؤثرة فيه فليس في إثبات السببية إخلال بقدرة الله المطلقة كما يزعم الأشاعرة الذين جردوا الفاعل الطبيعي والإنسان من القدرة حرصاً على تعظيم شأن الخالق عزَّ و جلَّ فوقعوا في تناقض خطير إذ جردوا الخالق سبحانه و تعالى من خواص الحكمة والتدبير . لقد فنّد ابن رشد آراء الغزالي واتجاهه الإشراقي المثالي الذي ينكر الأسباب المادية والوجود الموضوعي المستقل للأشياء والموجودات كما ينكر الهوية الخاصة لكل الأشياء مما يؤدي بنا إلى عدم اليقين والتحقق التجريبي من معارفنا عن العالم.‏ فالله عزَّ و جلَّ الذي يحيط علمه وقدرته بكل شيء قد قدّر الإنسان على أفعاله الخاصة ، وسنَّ سبحانه و تعالى  للموجودات سنة تجري عليها ، فكل ما يَحدُثُ يَحدُثُ بمقتضى الحكمة دون أن يخرج عن نطاق إرادة الخالق أو تقديره عزَّ و جلَّ .ويعتقد ابن رشد ان هذا النظام والترتيب الذي نلاحظه في العالم تابع للنظام والترتيب الذي في العقل الإلهي فإبطال القول بالسببية هو إبطال للحكمة الإلهية وللناموس الرباني وللشريعة الإسلامية .لقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً) فهذه الآية تقرر ثبات السنن الكونية والحكمة الإلهية.فالقول بالصدفة يبطل الحكمة الإلهية ،فنحن نستدل على وجود الله بوجود خلقه ونربط الخلق والكون بسبب موجوده وهو الله فالقول بذلك ينكر وجود الله تعالى لقد كان منطلق ابن رشد ( العقل ) مستخدماً النص بخلاف الغزالي الذي كان منطلقه  ( النص ) مستخدماً العقل .

إن قول الغزالي بالعادة وليس بالضرورة يثبت العادة للفعل الإلهي وهذا غير جائز في حق ذات الإلهية إذ  لا يجوز وصف فعله سبحانه و تعالى بعادة إذ العادة فعل البشر وليس فعل خالق البشر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. إذا عرف الإنسان الأسباب الحقيقية كان حكمه ضروريا وإذا لم يبن حكمه على الأسباب الحقيقية كان حكمه ظنِّيا ، وقد تتوهم النفس أن الحكم الظني حكم ضروري. إن السببية عند ابن رشد لا تلغي حرية الإرادة لأن الإرادة شوق تبعثه فينا المؤثرات الخارجية ولما كان العالم الخارجي بما فيه بدن الإنسان محكوماً بالعلاقات السببيه فإن ذلك الشوق أي الإرادة تتحقق عند مواتاة الأسباب الداخلية ( داخل بدن الإنسان ) والخارجية ( في الطبيعة ) وزوال الموانع. يرى ابن رشد أن الإنسان كائن عاقل وان العقل هو إدراك الأسباب فإذا أدرك الإنسان مواتاة الأسباب لشوقه أصبح قادراً على تحقيق إرادته ، ومن هنا حريته فكلما زاد علم الإنسان زادت حريته وتحققت إرادته. ترتكز فلسفة ابن رشد على مبدأ التفريق بين عالم الغيب وعالم الشهادة. ويهدف من ذلك إثبات أن صفات الله مغايرة للصفات الإنسانية ولا تشترك معها إلا بالاسم فقط، ولذلك لا يجوز لنا تطبيق المعاني الإنسانية على الأمور الإلهية، كما فعل الأشاعرة والغزالي وغيرهم. ولإزالة الخلط الذي يقع فيه الإنسان حينما يطبّق على عالم الغيب ما يعرفه عن عالم الشهادة المحسوس لا بد له من اللجوء للعقل والبحث القائم على البراهين التي بها نتوصل إلى اليقين. أما في خصوص المعجزات فإن ابن رشد  يقرُّ بداية في أنه يصعب فهمها ضمن المنظومة الفكرية للفلاسفة ففهم المعجزة أمر فوق القدرة الإنسانية وأن الإيمان بالمعجزات أمر ضروري لأن الإقرار بها شرط في وجود الشرائع التي هي مبدأ الفضائل وهذه الفضائل ضرورية .
وفي موضع آخر من التهافت يقول ابن رشد بممكنين :ممكن في طبعه وذاته وممكن في حق الإنسان فهو معروف أما الممكن في ذاته فهو في ممتنع على الإنسان والمعجزة هو في هذا الباب.
إن نفي السببية من أجل إظهار عظمة  القدرة الإلهية وتثبيت المعجزة  حسب ابن رشد هو  نفي للحرية الإنسانية وقدرته سبحانه و تعالى التي تبرز في الأسباب. إن النتيجة المترتبة على رفع السببية عدم التمييز بين الموجودات، إذ لكل موجود ماهية خاصة تميزه عن غيره، ومساواته بغيره بأنه معدوم القدرة يعني عدم التمييز والنسبية.  

و في النهاية نخلص إلى أن ابن رشد لم يجد حرجا في تقرير علاقة السببية على الاعتقاد والإيمان الديني العميق بوجود الخالق الفاعل في هذا الكون لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الكون وخلق القوانين والسنن التي لا سبيل إلى خرقها وتبديلها و إذا كان ابن رشد يثبت السببية، وأن أ سبب لوجود ب، أي أن حدوث الأول بسبب الثاني وبينهما صلة، وهذه الصلة لا يمكن أن تتغير أو تتبدل فإن الغزالي ذهب  أن السببية ناتجة عن الاطراد والعادة، فنحن نرى ان أ كلما حدث ب، لكن أ لا يستطيع أن يخلق ب، بل إن العادة جرت على أن ب يوجد بعد أ على التراخي في الزمن، فالعلاقة ليست صلة سببية إنما هو اطراد.

 

السببية بين الغوزالي وابن رشداضغط على الرابط للطبع السببية بين الغزالي وابن رشدأنقر هنا